رسالة إلى إبنتي، الآتية من المعلوم ... إلى المجهول

إبنتي الحبيبة
منذ اليوم الأول لبشارة قدومك الى هذا العالم وقد ملئتي قلب والدتك بالفرحِ العظيم وحياتي ودنياي بالغبطة والأمل والشوق للقّياكِ وكان هذا الفرح متلازماً دوماً وأبداً بالخوف  والحيرة والسؤال الأهم "إلى أي مجهول أنتِ قادمة؟ وما الذنب الّذي إقترفته لكي تستحقي بلداً مثل لبنان".
وأنا أنتظركِ بفارغ الصبر، والمسافة بيننا أسابيع قليلة، قررت أن اتوجه إليكِ ببعض الكلمات لعّل يوماً ما قد تحتاجينها لكي تستمري في هذه الحياة التي تخجل أنانّيتي من طوريتك فيها.

أنتظرك، وفي داخلي رغبة جامحة للتعرف عليك، أنت الآخر والأنا في آن. أتوق لرؤية ملامح وجهك. وجه رسمته باحتملات كثيرة. فكنتِ حيناً تشبهين والدتكِ جميلة كملاك، باسمة، حنونة، أو لا تشبهي أحداً. وجه بلون الشمس، يحمل سمات كل الثوار الذين أتوا ورحلوا أخذين معهم ثوراتهم محملة بدماء الشهداء وعرق جبين العمال، ودموع ألأمهات، لا أعلم ربما تكونين كل الصفات أنت وكل الوجوه وجهك.
أنتظرك ويمتلكني شوق لإدراك ذلك الشعور، كيف نصبح آباءً، وذلك الإحساس الغريب الذي يتكلمون عنه، كيف نمتلئ بالحب والعطف والحنان.
أنتظرك بملئ الثقة أنك ستحملين أحن قلب وأنقى فِكر، وأنَكِ سوف تَتَحَلين بعزة وعُنفوان وحُب وحَنَان الرجل الوحيد الذي لو بقيّ معنا في هذا العالم لكان أحبك من دون مقابل، وفداك بروحه، وحملك في قلبه، ولكن للأسف سوف تبدأين حياتك مُحَملتاً بهذه الخسارة الكبيرة. 
انتظركِ إبنتي وفي انتظاري، خوف وقلق شديدين. اخاف على رئتيك الصغيرتين النظيفتين اللتين لم تعرفا الهواء بعد، من هواء مسموم، نتنشقه نحن المتورطين قبلك، صحيحٌ أنّنا قد قررنا السكن بعيداً عن المدينة
لِنُؤمن لَكِ ولإخوتكِ في المستقبل بيئة أنظف وهواء أنقى ولكن التلوث يشّق طريقه إلينا عبر مئة طريق ووسيلة.
أخاف عليك من فساد، يدس لك السم في الماء والطعام والدواء وفي لقاحات، فرضت عليك أصلاً، وانت لا ذنب لك.
أخاف على أذنيكِ الصغيرتين من ضجيج متواصل، من أزيز رصاص يرافق كل مناسبة صغيرةً كانت أم كبيرة من حفلات العماد والتثبيت فلا يرضوا إلا أن يثبتوها بالرصاص والدم فالميرون لا يكفي والزيت المقدس لاينفع وصولاً للشهدات العليا والأعراس، من صوت مولد كهرباء لجارنا وضعه بالقرب من بيتنا، ومجبرون نحن على سماعه، وقبلنا به بعد أن تعودنا سماعه دائماً، وانتِ ايضا ستعتادين عليه مثلنا. ولا تخافي على أصدقائك الصغار فَهُم إعتادوا على هؤلاء الصيادين القَتَلَة فلا تخافي من أصوات بنادقهم في الفجر الباكر سوف تعتادينهم مثلنا أيضاً.
أخاف عليك من حروب مرتقبة في كل وقت؟ حروب صغيرة حدودها العائلة  والعشيرة  والبلدة  والمنطقة والطائفة والدين، أو كبيرة حدودها العالم، ومن سُيُوفِ فِتن تَحُومُ فوقَ رِقَابِنا مذْ خُلِقنا في هذا البلد.
أخاف عليك من كَذِبٍ سيلاقيك منذ لحظة وصُولك، وسيواجهك ما حيّيت. كذبُ ومكرٌ البَشَر، لا تُصَدِقي أحدًا ولا تنتظري من أحدٍ شَيئاً فَعَدُوك الأول في الحياة هو ما تَتَوقَعِينه من إنسان، وتذّكري دائماً إذا كنتِ لا تتوقعين شيئًا من شخص ما  فلن تشعري بخيبة أمل أبدًا، أنت دائماً أقوى عندما تصّمتين، فالناس لا يتوقعون الصَمْت بل كلماتك، وغضبك، وردة فعلك ليدينونك بها، فتسَّلحي بالصمت.  
إبنتي، سأستقبلك بحب وباقة ورد، ولن اكذِبَ عليكِ وأضلِلَكِ بأن الحياة في بلادنا مغمورة بالورود.
سأحَدثك عن وطنٍ جميلٍ وأعلمكِ التضحية والوفاء من أجلِهِ، وأزرع فيكِ حُبَه، وفي الوقت نفسه سأرشدك الى أبوابِ كل السفارات، وأشجعك على الاسراع  في الحصول على تأشيرات دخول الى بلاد تغادري اليها علّها تنقذك من وحل غرقنا نحن فيه من قبل وعجزنا عن النجاة منه فهذا الوطن ليس وطناً في الحقيقة بل كرحلة تجريبية للجحيم ، ستندمل جروحك ببطئ في كل مرة يبتسم لك أحدهم بلا سبب.
سأخبرك أن لبنان قصة جميلة، وسأنقلها اليك كما سمعتها، وأن اللغة العربية جميلة أيضاً، وأنصحك بأن تتذوقيها كالموسيقى ليس أكثر، ولكن عليك التمكن من لغات أخرى، لغات تستطيعين من خلالها التواصل مع آخرين. تَمَكُنَكِ من اللغة هي من أهم أسرار النجاح في الحياة، هي كالشكل الخارجي للإنسان يساهم في تكوين الانطباع الأول عنك لدى الأخرين، كلما زاد جمالك في الشكل واللغة كلما زاد إنبهار الأخرين بك.
سأحجب عنك أخبار زعمائنا، وأوهام بطولات أحزابنا الواهية، ووعود رؤسائنا الزائفة ما استطعت ولا أعتقد انني سأنجح بأن أبعد عن ناظريك مشاهد الموت اليومي من حولك.
سأقرأ لك كتابات ومسرحيات زياد يوماً، وأسمعك موسيقى زياد والأخوين الرحباني التي عشقتها، تسافرين بهما الى أماكن أخرى، أماكن تصنعيها أنت.
بعد كل هذا، أقدم لك اعتذاري، فرغبتي أنا ووالدتك ببناء أسرة، وحبنا لخوض تجربتنا، وعلى الرغم من تـأجيلنا لأربع سنوات وما تحَمّلتهُ أمكِ من تعيير من القريب قبل البعيد،  أملاً منّا فقط أن تتحسن الأحوال ورغم ذلك أنانيتي أنستني الظروف المحيطة كلها، وغيبت عني حقك بعيش كريم ورغبتك بحياة أفضل، سامحيني.
لن أعدك وعوداً واهية…بل سأعمل ما بوسعي للتعويض عن ذنب توريطك، وأعدك بأنني من لحظة لقائنا الأولى سوف أعود طفلاً عساك تقبلي صداقتي.
أودّ أن تعلمي أنني أحبك محبة بلا ضفاف ودون شروط.


 مستوحات بتصرف من مقال محمد الشامي 31 مارس، 2015 الذي ورد في الموقع الإلكتروني Janoubia.com 
للإطلاع على المقال على الرابط التالي: إضغط هنا

Comments

Popular Posts